العقيدة العسكرية الجزائرية بين المحدودية والتحديات (الجزء 2/1)

1628

ملخص:

بالنظر إلى الدور المؤثر للجيش الجزائري في المراحل الثلاث الرئيسية من تاريخ البلاد المعاصر، أي مرحلة حرب التحرير ومرحلة إنشاء الدولة المستقلة ومرحلة الحرب ضد الإرهاب، من المهم الوقوف على الفكر العسكري للجيش الجزائري، وعلى وجه الخصوص عقيدته العسكرية. والتي غالبا ما تتستر وراء الجانب المادي للقوات المسلحة أو تُختزل في العقيدة الدفاعية.

في السنوات الأخيرة ومع انتشار التوترات الداخلية والخارجية في العالم العربي، اضطرت بعض الدول إلى مراجعة عقيدتها العسكرية، أو حتى إلى إحداثها. سنحاول في هذه الأوراق تحليل العقيدة العسكرية الجزائرية، مبادئها، وتطورها ومحدوديتها. في الجزء الثاني من الورقة سنحاول إبراز العلاقة وتفاعلات العقيدة العسكرية الجزائرية مع العقيدة العالمية الجديدة في مكافحة الإرهاب. أما الجزء الأول من الورقة سوف نعرض فيه مدخل مفاهيمي لبعض التعريفات المهمة التي تخص العقيدة العسكرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقدمة:

ما تزال الجيوش العربية تلعب دورا مهما في الحياة العامة للدول، وخاصة في الحياة السياسية، والجيش الجزائري لا يخرج عن هذه القاعدة. حيث يلعب دورا فاعلا ومؤثرا في الحياة السياسية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حسب ما تقتضيه الظروف الداخلية والخارجية خصوصا. وعليه، من المهم دراسة وفهم أهم المصادر التي تحدد طبيعة الجيش وسياسته وإستراتيجيته العسكرية، والمتعلقة بفكره العسكري عامة وبعقيدته العسكرية بوجه التحديد. وسيما أن الدراسات والابحاث التي تتناول العقيدة العسكرية الجزائرية شبه منعدمة، وذلك لعدة أسباب منها شح المعلومات على مستوى المؤسسة العسكرية، وتعقيد الموضوع نفسه، ومنها ما هو راجع لطبيعة النظام الجزائري منذ نشأته. ولذاك، من المسلمات في الفكر العسكري أن أي خلل أو تناقض أو عدم وضوح في العقيدة العسكرية، سينعكس سلباً على كل النشاطات العسكرية، ليس في أيام الحرب فحسب بل وحتى في أيام السلم.

ومنه، تهدف هذه الاوراق إلى بعث نقاش حول العقيدة العسكرية الجزائرية بإعتبارها موضوع بحث مسكوت عنه لم يلقى الاهتمام اللازم من قبل الباحثين والأكاديميين المهتمين بالفكر العسكري. سنحاول بالتحديد الإجابة على التساؤلات التالية: ما هي العقيدة العسكرية ومصادرها وأهميتها؟ ما هي الثوابت والمتغيرات في العقيدة العسكرية الجزائرية في ظل مناخ إقليمي وعالمي متغير؟  وهل التحالفات العسكرية والأمنية فيما يسمى بالحرب العالمية ضد الإرهاب تستوجب نفس العقيدة العسكرية؟

وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من تسليط الضوء على بعض المفاهيم المهمة وتبيين العلاقة والتداخل بينها، حتى تتضح أهمية الموضوع من الناحية النظرية.

  1. العقيدة الشاملة للدولة:

العقيدة الشاملة للدولة، وتُعرف بالعقد الإجتماعي أو السياسة العليا للدولة[1]، هي مجموعة التعاليم والقيم السامية والمبادئ الثابتة التي تتأسس عليها الدول، وهي نابعة من حضارة الشعب وراسخة في عقله وضميره الجمعي، لها إنعكاسات على كل قطاعات الدولة والنشاطات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية.  هذه العقيدة تحددها المجتمعات عبر نخبها المتلاحقة حسب الظروف والأحداث بصفة تراكمية.

وعليه، فهي المرجع الأساسي الذي تستمد منه جميع مستويات العقيدة للدولة تعاليمها بما فيها العقيدة العسكرية (شكل 1). ومن الأمثلة على عقائد الدول: العقيدة الدينية لدولة إيران والمملكة العربية السعودية، والأيديولوجية لدول مثل روسيا والصين. وقد تكون على شكل مجموعة أسس ومبادئ تضعها النخبة في ظرف ما تتفرع منها أيديولوجيات كما في الولايات المتحدة الأمريكية.

شكل 1: العقيدة الشاملة للدولة

  1. العقيدة العسكرية:

يفضل البعض إستعمال كلمة مذهب عوض عقيدة بسبب الثقل الثيولوجي الذي تحمله الكلمة[2]، الا ان المفهوم الرائج هو العقيدة.  والتي تعني لغويا “العقْد”، وهو الربطُ والشدُّ  بقوة[3]، واصطلاحا تعني “ما يعقد عليه قلب الإنسان من مبادئ و افكار، عقدا جازما محكما لا يقبل الشك، بغض النظر عن أحقيتها أو بطلانها”.

توجد تعاريف متعددة للعقيدة العسكرية، لكنها لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض. لهذا سنذكر أشملها وما يفي بغرض البحث، مثل كونها: ”القاعدة الأساسية لتوحيد جميع مفاهيم العسكريين تجاه استخدام القوات المسلحة للدولة. والدليل الأساسي لتنظيم وتدريب القوات المسلحة في مختلف المستويات. وهي المنطلق الأساسي لأية عملية عسكرية تقوم بها القوات المسلحة، مهما كان نوعها أو حجمها. بالإضافة إلى كونها الدليل الرئيسي لإعداد وبناء وتطوير القوات المسلحة، واستخدامها في الحاضر وفي المستقبل.” [4]

يتضح مما سبق أن الهدف الرئيسي من العقيدة العسكرية هو توفير فهم وأرضية مشتركة لجميع مستويات القيادة ووحدات القتال العسكرية لما يجب إنجازه لتحقيق الأهداف المسطرة. كما يجب الإشارة إلى أن هذا المصطلح العسكري ذو إمتداد عمودي، يبدأ من أعلى التنظيم حتى يصل إلى آخر العسكريين في التنظيم الهرمي عبر مستويات ثلاث (شكل 2)Picture2

 

1.2 مستويات العقيدة العسكرية:   

  • المستوى الاستراتيجي: المبادئ العامة التي توجّه كل النشاطات العسكرية. فمن جهة هو أكثر المستويات استقرارا بسبب تأثره المباشر بالعقيدة الشاملة للدولة، ومن جهة أخرى يشهد تطورا مستمرا نظرا للظروف الداخلية والإقليمية والدولية المتغيرة.
  • المستوى العملياتي: تطبيق المبادئ الإستراتيجية وتحويلها إلى عمليات عسكرية أخذت بعين الاعتبار الأهداف والوسائل والبيئة.
  • المستوى التكتيكي: تطبيق عملي للمبادئ العملياتية عند إلتقاء مختلف القوات البرية والجوية والبحرية مباشرة مع العدو من أجل تحقيق الأهداف العملياتية.

المستويات الثلاث إحدى خاصيات العقيدة الشرقية، عكس نظيراتها الغربية التي تمتاز بمستويين الاستراتيجي و العملياتي  (الذي يحتوي التكتيكي)[5] . لكن بعد فحص مختلف العقائد الغربية إتضح أن المستويات الثلاث معمول بها كذلك في عقائدهم.

تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين العقيدتين العسكرية والقتالية. فالعقيدة القتالية تدخل في المستوى العملياتي والتعبوي للعقيدة العسكرية،  وليس لها علاقة بنوعية السلاح والتدريب أو أي شيئ مادي، لأن أساسها الدافع المعنوي الذي يوجد للجندي المبرر للتضحية بنفسه وتنفيذ أوامر لا يعرف أبعادها على المدى القريب أو البعيد.[6]

  1. أنواع العقيدة العسكرية:
  • العقيدة الأساسية: المبادئ العامة المستلهمة مباشرة من العقيدة الشاملة للدولة والتي تحدد الرؤية السياسية للدولة في إستخدام القوة العسكرية على المستوى الإستراتيجي.
  • العقيدة البيئية: تبين المبادئ العملاتية التي توضح عمل القوات المسلحة في بيئات مختلفة برية وجوية وبحرية.
  • العقيدة التنظيمية: المبادئ التي توجه كيفية إستخدام مختلف التنظيمات العسكرية وهي الأكثر تغيراً وتأثراً، بالمقارنة مع النوعين السابقين، بالتقنية والخبرات والتدريبات المتجددة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن العقيدة الأساسية أكثر ثباتاً لإرتباطها بالعقيدة الشاملة التي تمتاز بها كل دولة، عكس العقيدتين البيئية والتنظيمية التي تمثل علم عسكري تشترك فيه الآن معظم الدول رغم إختلاف جيوشها.

يوجد تقسيم هرمي تركيبي لأنواع العقيدة العسكرية (شكل 3) خاص بدول تتواجد في تحالفات عسكرية إستراتيجية كحلف الناتو، نذكر منها على سبيل المثال:

  • العقيدة العسكرية الخاصة بكل فرع من فروع القوات المسلحة من برية وبحرية وجوية،
  • العقيدة العسكرية لمختلف القوات المسلحة لنفس الجيش وهي المبادئ الأساسية التي توجه العمليات المشتركة ما بين قوتين مسلحتين على الأقل.
  • العقيدة العسكرية المشتركة بين الجيوش الصديقة والمتحالفة[7] بموجب تعاهدات أو إتفاقات ثنائية إستراتيجية و التي تحدد من خلالها أفضل طريقة لدمج مختلف القوات المسلحة للجيوش، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي NATO بناءا على معاهدة شمال الأطلسي التي تأسست في 1949 و مقرها مدينة بروكسل البلجيكية.

مصادر العقيدة العسكرية:

  • العقيدة الشاملة للدولة تمثل المصدر الأساسي للعقيدة العسكرية.
  • الخبرات والحروب السابقة، الموقع ولطبيعة الجغرافية للبلد، التطور التكنولوجي.
  • مراكز الدراسات البحثية والاستراتيجية العمومية الخاصة، المدنية والعسكرية. التي يتزاوج فيها الفكرين العسكري والمدني. والتي تجمع مختلف الإختصاصات وتبحث في العلاقات بين النظريات والتطبيقات الواقعية مستندة إلى تجارب سابقة وحديثة وإستشرافات لتهديدات محتملة ورصد لجميع التحولات الإقليمية والعالمية. عادة ما تكون هذه المراكز تابعة مباشرة للمؤسسة العسكرية بتمويل عمومي شامل أو جزئي أو لمؤسسات خاصة أو جامعية.
  • عقيدة أشمل ،كالعقيدة العسكرية للناتو ،والتي تفرض على أعضاءها أن تكون العقيدة الاساسية والمرجع الأولي. فدولة مثل فرنسا مثلا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تستمد عقيدتها العسكرية أساسا من عقيدة الناتو ثم من عقيدة الاتحاد الأوروبي ثانيا. وعليه، تأتي العقيدة الفرنسية في مستوى ثالث لسد ثغرات المستويين الأول والثاني.[8]

أهمية العقيدة العسكرية:

مما سبق يمكن القول أن العقيدة العسكرية الخاصة بكل دولة تهدف إلى تحقيق أحد أهم مستويات الأمن، ولكنها ليست كافية لتحقيق الأمن بمفهومه الشامل (الفردي، الإجتماعي، الغذائي، الثقافي…). وضوحها شرط ضروري لتنسيق فعال بين مختلف القوات المسلحة والاستخباراتية لتحقيق الأهداف والأنشطة العسكرية. كما أنها الأساس الذي تلتقي وتبنى عليه الاتفاقيات والتحالفات العسكرية بين الجيوش.

في الجزء الثاني من الورقة سوف نسلط الضوء على الوثائق والمبادئ التي تأسست عليها الدولة الجزائرية، ومحورية الجيش وعلاقته بالدولة والأمة، و نبين الخطوط العامة لعقيدته العسكرية و تطورها منذ الإستقلال إلى إنقلاب الجيش في 1992 على المسار الديمقراطي الذي أطلقه النظام نفسه. ثم نوضح تطورها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 و ما ترتب عنها من عولمة للعقيدة العسكرية المتمثلة في محاربة الإرهاب.

[1] ‎ أنظر: “الاستمرارية والتغير في العقيدة الدفاعية الإسرائيلية دراسة مقارنة لما بعد حربي أكتوبر 1973 و يونيو 2006″، دلال محمود السيد محمود، 2013. الناشر: المكتب العربي للمعرف، ص 28.

[2] « L’idée de dogme peut paraître “démodée”. En réalité, elle peut aussi être considérée comme centrale. »  Ivo Rens, Histoire des Doctrines Politiques p 16, Ed numérique,

http ://www.uqac.ca/Classiques_des_sciences_sociales/

[3] مادة عقد القاموس المحيط

[4]‎ الاستمرارية والتغير في العقيدة الدفاعية الإسرائيلية دراسة مقارنة لما بعد حربي أكتوبر 1973 ويونيو 2006″، دلال محمود السيد محمود, 2013 الناشر: المكتب العربي للمعرف، ص 10.

[5]  المرجع السابق ص 14

[6]  العقيدة القتالية للجيوش، عبد الرحمن يوسف، 19 نوفمبر 2014، موقع مصر العربية

[7] Publication Interarmées des Forces canadiennes PIFC 01, Doctrine militaire canadienne, Ed :    Centre d’expérimentation des Forces canadiennes, 2009-04, p 1-3.

[8] Voir : « Centre interarmées de concepts, de doctrines et d’expérimentations », DIA-01(A)_DEF (2014) p 25, Ministère de la Défense Française :

‘’ La doctrine militaire française se construit en référence et par rapport à la doctrine OTAN, ou à la doctrine spécifique de l’UE lorsqu’elle existe, particulièrement dans les champs couverts par des objectifs d’interopérabilité. Cela signifie qu’une doctrine nationale n’est développée que pour combler un vide ou une lacune de la documentation de l’OTAN ou de l’UE, pour répondre à un besoin ou un objectif spécifiquement national (document de type « supplément français à un document OTAN ou UE ») ou pour servir d’orientation nationale et de base aux évolutions de la doctrine alliée.’’