“إصلاحات من أجل الترقي” (1): إحداث الترقّي في الجزائر، تحديات وآفاق

239

بقلم: أنور نصر الدين هدام

باحث، مركز الترقي

ملخص

تواجه الجزائر ازمة اقتصادية واجتماعية وأمنية حقيقية، وذلك رغم مرور أربع وخمسين عاما منذ تحررها من الاحتلال، ورغم مقدراتها البشرية والطبيعية الهائلة. فهي لا زالت رهينة ثلاثي الاستبداد والفساد والتبعية؛ الثلاثي المعطل لأي مشروع تنموي جاد يخلصها من التخلف. تقدم هذه الورقة الاولى ضمن سلسلة “إصلاحات من أجل الترقي”، معتمدة قراءة معينة للخريطة السياسية، دراسة حول بعض أسباب فشل النخبة السياسية، سلطة ومعارضة،

في تحقيق توافق وطني لحل شامل فعلي للازمة. حيث، من جانب السلطة، ترى الورقة أن مبدأ “الوحدة في العمل” الثوري، الذي كان مفصليا في إنجاح الحرب التحريرية الخالدة، والذي تم فرضه ما بعد التحرير في مرحلة بناء الدولة، كان خطأ استراتيجية ارتكبته النخبة الثورية ينبغي إيجاد إرادة سياسية وطنية لتجاوزه ولتبني بدله مبدأ احترام التنوع الفكري والأيديولوجي والتعددية السياسية الحقيقية. أما من جانب المعارضة، ترى الورقة وجود خطين لا يكادان يتقاطعان: الخط الحضاري والخط التغريبي. لتستنتج ان “التخندُق الأيديولوجي” الذي سقط فيه كل من العلماني والإسلامي تسبب في غياب عنهما أسس ومبادئ التمكين في الأرض وخدمة الشعوب. لتخلص الورقة انه من الضروري تغيير ذهنيات السياسيين ، سلطة و معارضة، ليدركوا انه لا يمكن الخروج من التخلف وإحداث الترقّي المنشود مع استمرار ثقافة الوصاية على الشعب والاقصاء والاستئصال التي تسببت في مأساة وطنية لم يتم ضمد جراحها بعد. والى كون ان الجزائر في حاجة الى إصلاحات تجعل حدا للعنف السياسي وتؤسس لثقافة المواطنة والديمقراطية واحترام التعددية السياسية والتنوع داخل المجتمع، وتعيد للسياسة مكانتها ودورها المحوري، اذا ما أُريد ترجمة على ارض الواقع زخم الأفكار والمشاريع الى زخم البرامج بشقها السياسي والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، ووضع السياسات القابلة للتنفيذ على ارض الواقع تحدث نقلة حضارية وترقية شاملة حقيقية لبلدنا ـ شعبا وحكومة ودولة ـ لما يخدم شعبنا وباقي شعوب منطقتنا المغاربية والعالم الاسلامي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزائر و ثلاثي الاستبداد و الفساد و التباعية… بعد أكثر من نصف القرن من الاستقلال   

العديد من الدول “العالَمثالثية”[1] التي تحررت من الاحتلال فشلت في إحداث إصلاحات تمكنها من اختراق حواجز التنمية وتحقيق الاقلاع الحضاري المنشود والخروج من التخلف. وذلك يعود في أهم مفاصله إلى غياب الرؤية السياسية الجامعة التي تلم بمختلف أركان العملية التغييرية سواء من حيث التأسيس النظري والنصوص المؤسسة للدولة، أو البرنامج العملي في كلياته ومؤسساته، أو البرنامج العملي الإجرائي في خطواته المتكاملة.

بعد أكثر من نصف القرن من تحررها من الاحتلال، ورغم مقدراتها البشرية والطبيعية الهائلة، نجد الجزائر تواجه ازمة اقتصادية واجتماعية وأمنية حقيقية عجزت النخبة السياسية، سلطة ومعارضة، في إيجاد المناخ المناسب لحلها وبلورة مشروع وطني موحد يعبّر عن طموحات الشعب بكل فئاته ويكون في مستوى آماله ويفتح للجزائريين جميعًا دون إقصاء آفاقًا جديدة.

فالجزائر إلى اليوم لا زالت رهينة ثلاثي الاستبداد والفساد والتبعية؛ ذلك الثلاثي المعطل لأي مشروع تنموي جاد يخرجها من التخلف. فهي لم تتمكن من إيجاد توافق وطني حول آلية لوضع دستور للبلاد يعبر عن الشعب في تنوعه ويحترم حقه في التعددية السياسية الحقيقية وينظم العلاقات بين مواطنيه فيما بينهم ويمكّنه من تأسيس دولة أول نوفمبر يسودها القانون والقضاء المستقل، ومن اختيار سلطة سياسية للبلاد تكون في خدمته وتحمي مصالحه الاستراتيجية.

النخبة الثورية ومبدأ “الوحدة في العمل”

هكذا، من جانب السلطة وفي صبيحة الاستقلال، دخلت النخبة الثورية، خاصة بشقها العسكري، في خلافات حادة فيما بين أفرادها والتي وصلت الى حد الاقتتال والتصفية الجسدية. كما فرضت على الشعب خيارات ايديولوجية وسياسية.  وتم تبرير العنف السياسي هذا والاستبداد بذريعة الحفاظ على مبدأ “الوحدة في العمل”[2]، المبدأ الذي كان ذو أهمية كبيرة في إنجاح مرحلة حرب التحرير، متناسية ان مرحلة ما بعد الاحتلال وبناء الدولة تحتاج، بدلا من فرض الأحادية الحزبية بل والفكرية، الى أشراك جميع التيارات وفتح المجال للمنافسة على كسب ثقة الشعب لخدمته من خلال التعددية السياسية واستعادة سيادته ليختار بكل حرية ووعي ما يناسبه من بين المشاريع المطروحة.  وهكذا أقصت النخبة الثورية كل توجه مغاير لما اختارته.

فبدلا من التركيز على انجاز نصوص تأسيسية للدولة الفتية وبناء مؤسساتها، وفي وقت تراجع الشق السياسي للنخبة الثورية بحجة عدم توريط الشعب في حرب أهلية، ركّز شقها العسكري (حيث فُتح هكذا له المجال) على مؤسسة الرئاسة والهيمنة على مفاصل الحكم. ومن هنا تم التأسيس لمبدأ الشرعية الثورية والموالاة على حساب الشرعية الشعبية والدستورية.

نشير هنا انه مع ضرورة الاستنكار بما عُرف بحزب فرنسا والذي افراده بشقيه العسكري والمدني تسللوا صفوف المهيمنين على السلطة، فلا ينبغ السقوط في تخوين جميع أعضاء النخبة الثورية الذين ساهموا في بناء النظام السياسي ولو على حساب بناء الدولة ومؤسساتها. فمنهم بالفعل وطنيون في رأينا أخطئوا في تقديرهم لمستلزمات مرحلة بناء الوطن بعد تحريره. حيث يمكننا تلخيص تبريرهم إقصاء كل من خالف مبدأ “الوحدة في العمل” كالتالي: ان تعدد التفكير يؤدي الى تعددية الأعمال، والتي بدورها تؤدي بالضرورة الى الفوضى وعدم الاستقرار. لكن وضع الجزائر اليوم التي فُرض فيها هذا المبدأ طيلة أربع وخمسين سنة منذ الاستقلال، دليل واضح على عدم صلاحية تلك المبدأ في مرحلة بناء الدولة. حيث أن السلطة بسم الشرعية الثورية، وبإقصائها لكفاءات من مختلف التيارات خالفت رؤيتها، فشلت في تقديم إصلاحات تمكننا من تجاوز الازمة.

الامر الذي افضى الى فقدان ثقة الشعب في السياسية والسياسيين وفي مؤسسات الخدمة العامة، و بالتالي الى فشل جميع البرامج التنموية للحكومات المتعاقبة منذ فجر الاستقلال الى اليوم.

فالرؤية الأحادية التي اعتمدتها النخبة الثورية وفرضتها على المشهد الوطني بمختلف ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية حالت دون تمكين الجزائريين في تنوعهم من إحداث التوافق لتنظيم نقاش وطني جامع حضاري يبعث الثقة بين الجميع ويمنح للسياسة مكانتها ودورها المحوري داخل المجتمع كما وصفها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله من كونها “محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب”، حيث ضل معظم افرادها يمارسون “البولتيك” والتي هي حسب تعبير الاستاذ رحمه الله “مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه”[3].

ما ظل يهم اغلبية المهيمنين على مفاصل الحكم منذ فجر الاستقلال وتحت ذريعة الحفاظ على الشرعية الثورية، هو في الحقيقة الحفاظ على امتيازاتهم، حتى على حساب مصالح الشعب وحقه في الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية، وحقه في بناء دولة قوية تقوم على دستور توافقي يعبر عن سيادته وخياره في تنوعه، وعلى مؤسسات تكون في خدمته.

ونحن في مرحلة بناء الدولة التي تختلف عن مرحلة تحرير الوطن من الاحتلال، يجب” تصحيح المسار ونهج سبيل الديمقراطية وإشراك الجميع”، كما أكدّ عليه في شهادة[4] الراحل الشريف بلقاسم، وهو أحد افراد النخبة الثورية الأساسيين والذي استقال من الحكم في سنة 1974، وبعد ان ذكّر بالنهاية المأساوية لبعض من ساهموا في بناء النظام السياسي في الجزائر ما بعد الاحتلال من النخبة الثورية، بذريعة الحفاظ على مبدأ “الوحدة في العمل” ذاته، أمثال الراحل أحمد المدّغري والراحل قايد أحمد وغيرهما.

المعارضة وتخندقها الأيديولوجي

والمعارضة، بشقيها “المعتمد” وغير المعتمد، هي الأخرى تتحمل مسؤولة غير بسيطة لما أل اليه الوضع المحزن لبلدنا الجزائر اليوم. فهي لم تتمكن من تحقيق التوافق فيما بينها حول سبيل بناء جزائر جديدة مستقرة ومزدهرة. فأغلبية مكوناتها لم تتمكن من تجاوز الخلافات الأيديولوجية والسياسية والتنزّه عن الحسابات الحزبية الضيقة والتحلي بروح المسؤولية. فبالإضافة الى غياب الحريات والرؤية الأحادية التي فرضت على المشهد السياسي كما تم بيانه سابقا حيث لم يكن يُسمح بالعلنية والحوار ونقاش الرؤى والمشاريع، سبب ذلك التخندق الأيديولوجي يعود كذلك الى غياب مشروع سياسي لدى اغلبية مكوناتها يستند الى رؤية واضحة لمستقبل الجزائر تنبع من مرجعية فكرية ورؤية سياسية محددة.

وهكذا فشل المستاؤون من وضع البلاد الحالي من داخل السلطة والمعارضة في التأثير على موازين القوى لصالح معالجة الازمة وتحقيق الترقي المنشود.

وإذا حاولنا قراءة وبتمعن الخريطة السياسية في الجزائر[5]، والملاحظات نفسها يمكن تعميمها على مختلف الدول “العالَمثالثية” التي استقلت في نفس الفترة والتي حتى الآن لم تستطع أن تحقق القفزة الحضارية المنشودة، فإن هذه القراءة ستبين لنا واحد من الأسباب التي حالت دون تحقيق التوافق داخل المعارضة، وهو وجود خطين لا يكادان يتقاطعان: الخط الحضاري والخط التغريبي[6]. وحول كلا الخطين تتأسس اتجاهات سياسية وثقافية يمينًا ويسارًا ووسطًا، علمانية واسلامية. إننا سنلاحظ بأنه منذ بداية القرن العشرين شهدت الساحات الوطنية نشاطًا مكثفًا لمجموعات كثيرة، وتيارات سياسية وثقافية متعددة من مختلف التوجهات والخلفيات الفكري والأيديولوجية والعقائدية. وكانت كلها تسعى جاهدة لتغير من وضع الشعوب وإدخالها من جديد إلى مضمار الفعل التاريخي. وقد قامت طيلة هذه المدة بنشر أفكارها وأيديولوجياتها ومعتقداتها.

تمكنت بعض هذه التيارات التي استطاعت أن تقترب من دوائر “أصحاب القرار” أو تصبح من بين طقمها السياسي، أن تقدم مشاريعها التنموية عن طريق السلطة السياسية. بينما لجأت توجهات أخرى إلى التعبئة الجماهيرية، وتم ذلك من خلال أنشطة مختلفة للتوعية، منها ثقافية إعلامية وأخرى دعوية تربوية، بعضها في السر وبعضها في العلن حسب الظروف المتاحة لكل منها. وهذا في حد ذاته يدل على حيوية كبرى داخل المجتمعات، وذلك يعكس ظاهرة صحية ينبغي تشجيعها لا قمعها.

إلا أن جل هذه المجموعات الوطنية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة! وسواء أكانت ذات توجهات علمانية أم إسلامية! لم تُفلح في تحقيق ما تصبو إليه بصورة واقعية وكثير منها عجز حتى عن الانتقال من زخم الأفكار والمشاريع إلى زخم البرامج بشقها السياسي والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي ووضع السياسات القابلة للتنفيذ على ارض الواقع.

إنّ القراءة المتأنية تعكس أن هذا الفشل يرجع إلى كون أن هذه التيارات والتوجهات قد اختصرت معظم جهودها داخل الدائرة الأيديولوجية، على حساب معركة عملية التمكين ومستلزماتها واستعادة سيادة الشعوب المسلمة على أراضيها وتقرير مصيرها هي بنفسها. مما تسبب في خسارة المعركة التنموية والبقاء في دائرة التخلف والتبعية بل والفساد.

والملاحظة نفسها يمكن توجيهها للتيارات والتوجهات ذات المرجعية المنتسبة للصحوة الإسلامية حيث إن كثيراً من هذه التيارات كانت تتغذى على ردات الفعل، وبذلك يمكن القول إنها سقطت في فخ العلمانيين. لقد بذلت قصارى جهدها وسخّرت جل طاقاتها الفكرية والبشرية والمادية في الرد على الحركة العلمانية، فبقيت تتراوح هي الأخرى في دائرة الصراع الأيديولوجي.

وعلى الرغم من التحديات الخطيرة التي تواجه عالمنا الإسلامي والتي ترهن استقلالية بلدانه للهيمنة الغربية وتضعها موضع التساؤل، فقد انصب اهتمام جل هذه المجموعات على معالجة القضايا العرضية بعيدًا عن الجوهر وملامسة الحلول الشكلية بعيدًا عن الحلول العملية التي تتجاوز الظاهرة، ظاهرة التخلف، وتفكك شروطها الموضوعية وتستبدلها بشروط الفعل الحضاري الذي يؤسس للنقلة النوعية في عالم التغيير.

فمن هذه المجموعات من اعتنقت نظرة الغرب المسيحي للدّين، ومعالجته لتجاوزات الكنيسة وسيطرتها العنيفة على الساحة العامة وشؤون المواطنين الخاصة إلى درجة استعبادهم، وذلك في عهد النظام الثيوقراطي الذي ذاقت مرارته الشعوب الأوروبية طيلة قرون. فجنّد هذا الفريق كل طاقاته من أجل إبعاد الإسلام عن حياة المسلمين العامة والخاصة؛ حتى لا يبقى الإسلام بوصفه خزاناً للقيم الحضارية الذي يضبط العلاقات الثلاثية بين الإنسان، والله سبحانه وتعالى، والطبيعة أو التاريخ بوصفه ميداناً لتجسيد هذا التناغم الحي.

يكاد ينحصر نشاط جل الأحزاب السياسية العلمانية المنبثقة عن هذه المجموعات ومشاريعها التنموية في نقطة واحدة: السعي الكثيف من أجل تحقيق الفصل بين الدين الإسلامي والمجتمع والفرد ولو على حساب الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. الأمرالذي كلف الكثير في بعض البلدان مثل الجزائر. لقد تحوّل هذا إلى هاجس سياسي وكابوس يطارد هذه المجموعات حيث إن كل توجه أو تيار يحمل شعار استلهام حركته السياسية ونشاطه التغييري من خزان القيم الحضارية للإسلام يعدّ في نظر هذه المجموعات تهديداً مباشراً لسلطانها الزماني. ولذلك عمل هذا الفريق، والذي تمكّن من مفاصل الحكم في معظم الدول المسلمة، على إبعاد الإسلام عن الحياة العامة للمواطنين وعن دولتهم ومحاصرته في دائرة ضيقة دائرة الشعائر.

لقد اختصر هذا الفريق برنامجه السياسي في كيفية تحويل الإسلام إلى دين كنسي بمحاصرته والتضييق عليه، وفي الوقت نفسه سجل هذا الفريق فشله في الميادين الحيوية وفي إدارة الملفات الأساسية وميادين التمكين والاستقلال الحضاري مثل الزراعة، وتوفير الأمن الغذائي، والتعليم، والبحث العلمي والتكنولوجيا. وكان الجهد السياسي ينحصر في عملية تلفيق وتقليد “أعمى” لبرامج اقتصادية صيغت على أسس حضارات أخرى فكان التبني الأبله في بداية الأمر لمادية كارل ماركس والمنظومة الاقتصادية الاشتراكية، متجاهلين الأسس الحضارية لمجتمعاتنا المسلمة. ثم أنقلب هؤلاء “التقدميون” كما يلقبون أنفسهم، ليتبنوا دون وعي ولا سابق تخطيط لليبيرالية آدم سميث والمنظومة الاقتصادية الليبيرالية. ونحن رأيناهم كيف هرولوا نحو خصخصة عمياء لم تراعي التكلفة الاجتماعية حيث فتحت البلاد على اقتصاد البزار احادي التوجه على حساب اقتصاد منتج ومتنوع.

إن مسألة الدّين والارتباط بالمولى عز وجل مسألة حيوية ومصيرية في حياة كل مسلم. وحركة الصحوة الإسلامية في الجزائر، منذ عهد الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله أسهمت في تعزيز وتعميق الفهم المتكامل والمتوازن لدور الدّين في حياة المواطن. فالصحوة الإسلامية أسهمت في نشر الوعي بخصوصية الإسلام وكونه منهج حياة متكامل بل ومهمة حياة للفرد والأسرة والمجتمع، وكونه المقوّم الأساس لشخصية الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم. وهذا ما يجعلنا معتنقين للفكرة القائلة بأن على جميع الأحزاب المنبثقة عن هذه المجموعات الوطنية، بما فيها العلمانية والإسلامية، ودون احتكار التعبير باسمه، الاهتمام أكثر بالإسلام وموقعه في الرؤية التغييرية التي تتبناها.

لقد ارتكبت المجموعات العلمانية خطأً استراتيجيًا عندما تجاهلت المقومات الأساسية التي تشكل الشخصية الوطنية وعملت على تجاوزها بل كسرها وإضعافها. وخاصة بالنسبة للإسلام الذي هو بالنسبة للمسلم المكون الأساس للشخصية. ولم تدرك أن المجتمع هو الذي يطبع سلوك الأفراد فيه بدرجة معينة من الفعالية عند التعامل مع البرامج الحكومية بما فيها المخططات الاقتصادية. فأي مشروع تنموي لا يأخذ بعين الاعتبار المقومات الأساسية لشخصية المواطن يكون مآله الفشل، لأنه لا يستطيع تحريك جوانب الفعالية في المواطن بل يعمل على تغريبه وإبعاده عن محيطه الطبيعي.

وتقودنا الملاحظة المتأملة في القوى السياسية والاجتماعية الراهنة إلى انتقاد التوجهات التي حاولت تمثيل العمق الحضاري للمجتمع وخاصة المجموعات التي تنتسب إلى الصحوة الإسلامية، حيث إن جلها لم يفلح في الانتقال من مرحلة نشر كتلة المفاهيم إلى مرحلة السياسة وشؤون الدولة والحكم وترجمة تلك المفاهيم إلى برامج واقعية ميدانية.

فجل الأحزاب المنبثقة عن مجموعات الصحوة الاسلامية هذه (باستثناء حزبا العدالة والتنمية في تركيا والمغرب، والأحزاب الحاكمة في كل من إندونيسيا وماليزيا، والى حد ما حركة النهضة التونسية) لم تتمكن من تجسيد مفاهيمها الإصلاحية والتجديدية وشعاراتها لا في برامج سياسية تغييرية متميزة واضحة، ولا في برامج حكومية واقعية قابلة للتطبيق، خاصة بالنسبة لمن “فُتحت” لها أبواب السلطان والحكم، او كما ضنّ بعدهم بنهجهم سياسة “المشاركة في الحكم” مهما افتقر الى الشرعية الشعبية والدستورية. وحتى شعاراتها سرعان ما أفرغتها هي قبل خصومها من مدلولها الحضاري العميق. ولا يكفي التلفيق والترقيع لتجنب “إلحاد الماركسيين” ومغالاة العلمانية في معاداة الدين و”وضع المسحة الإسلامية”، على حد قول أستاذي مالك بن نبي رحمه الله، على برامج ومخططات مستوردة لنخرج منها ببرامج اقتصادية إسلامية!

وهناك مجموعات تُنسب -أيضاً- إلى الصحوة الإسلامية تعيش حالة من الانفصام والازدواجية في فهم التشريع الإسلامي وهي تدعي أنها تهدف إلى التطبيق الحرفي للنص القرآني ولسنة نبينا محمد r، لكن هذا الادعاء يتجاهل الجهد العلمي المبذول من قبل علماء الأمة طيلة الأربعة عشر قرنًا الماضية منذ فجر الاسلام واستنباطهم من تلك النصوص الكريمة أحكام ديننا الحنيف ومقاصد شريعته السمحاء. وقد أدى بها هذا الازدواج في الفهم وهذا القصور في تفهم رسالة الإسلام إلى تبني الموقف العلماني، دون أن تشعر، في تقسيم الوجود إلى زماني وروحي؛ ولذلك قررت عدم الخوض في مسألة السياسة تاركة الأمر لقيصر ليحدد المصالح الشرعية تحت ذريعة طاعة “أولي الأمر”. وقد أدى هذا الانحراف إلى إصباغ الشرعية على أنظمة فاسدة ومستبدة باسم ذريعة تجنب الفتنة وحماية البيضة وعدم شق عصا الطاعة.

والإطار نفسه من الغلو والفهم القاصر أدى بمجموعات أخرى من اللامذهبية إلى السعي لحرمان الأمة من حقها في الاختيار، فهدفها الوصول إلى الحكم بالقوة. أي السعي لاستبدال مستبدين باسم العلمانية بمستبدين آخرين يدّعون حماية الدين وهم في واقع الأمر يحمون فهمهم القاصر وتصورهم الضبابي لرسالة الإسلام الخالدة، كما هو حال ما يسمى ب “داعش”. وقد تمكنت بعض الأنظمة المستبدة عبر العالم الإسلامي كما كان الحال بالأمس في الجزائر واليوم في مصر وسوريا واليمن وليبيا من استغلال هؤلاء الغلاة لضرب مكتسبات صحوة شعوب المنطقة، أو ما يُعرف بالربيع العربي، التي تشهدها منذ ربيع 2011، بل وتشويه الصحوة والتيار الإسلامي[7].

تغيير ذهنيات السياسيين ، سلطة و معارضة، مفتاح إحداث التحول الديمقراطي و إنجاح التحول الاقتصادي

إن مبدأ “الوحدة في العمل” الثوري كان مفصليا في إنجاح الحرب التحريرية الخالدة. لكن فرضه في مرحلة ما بعد التحرير ومرحلة بناء الدولة كان خطأ استراتيجية ارتكبته النخبة الثورية ينبغي إيجاد إرادة سياسية وطنية لتجاوزه ولتبني بدله مبدأ احترام التنوع الفكري والأيديولوجي والتعددية السياسية الحقيقية.

كما أن “التخندُق الأيديولوجي” الذي سقط فيه كل من العلماني والإسلامي في بلدنا الجزائر، والذي ظل مهيمنا على ذهنيات السياسيين حتى خلال الانفتاح الديمقراطي التي شهده بلدنا في فترة ما بعد “الربيع الجزائري” لأكتوبر 1998 وقبيل حدوث جريمة الانقلاب على خيار الشعب في يناير 1992، والمعارك الهامشية التي خاضاها، كل ذلك تسبب في غياب لديهما أسس ومبادئ التمكين في الأرض وقيام الدول وخدمة الشعوب. حيث مختلف تيارات الخط الحضاري وهي منشغلة في الصراع الأيديولوجي فيما بينها وفي الرد على استفزازات مختلف تيارات الخط التغريبي لم تقدم مخططات تنموية بديلة وقابلة للتنفيذ في محيطنا.[8]

واما تيارات الخط التغريبي التي استولت على مفاصل الحكم منذ فجر الاستقلال اكتفت بتقليد اقتصاديات بعض الدول، شرقية في البداية ثم غربية، وهي تجهل ان القضية لا تكمن في استيراد مخططات اقتصادية وإن كانت ناجحة في بلدان أخرى فلأنها جُهزت لمجتمعاتها التي تم تحضيرها وتأهيلها لتلك المخططات.

فالقضية بالنسبة لشعوبنا المسلمة هي “قضية تطعيم ثقافي للمجتمع المسلم يمكنه من استعمال إمكانياته الذهنية والمادية وبصورة عامة تجعل كل فرد فيه ينشط على أساس معادلة اجتماعية تؤهله لإنجاح أي مخطط اقتصادي …”. فالاقتصاد “ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات …”[9].

هكذا، يجب تغيير ذهنيات السياسيين من داخل السلطة و من جميع تيارات المعارضة المنتسبة للخط الحضاري ــ وهو الخط الذي في نظرنا يُعقد عليه و في تنوعه الامل بعد الله عز وجل في إصلاح الأوضاع في بلدنا لما يخدم المصالح الاستراتيجية لشعبنا في تنوعه ــ تيارات علمانيين وإسلاميين على حد سواء، ليدركوا ضرورة اعتبار أن جميع المواطنين دون أي اقصاء او تهميش يشكلون مصدر وهدف التنمية الاقتصادية. فالمهمة  الإقتصادية للدولة تكمن بحسبنا في السعي لزيادة الرفاهية والسعادة للشعب في تنوعه وبكل فئاته و من كل جيهات الوطن، ولتوفير لهم الحد الأدنى في شتى المجالات للعيش الكريم. كما أن الرغبة في تمكين الدولة للتخلص من التباعية ولاستعادة قرارها السيادي هو شغلنا الشاغل.

تملك الجزائر إمكانيّات تنمويّة واقتصاديّة ضخمة لتحقيق تحول اقتصادي يمكنها من تجاوز الازمة. لكن نجاح التحول الاقتصادي مرهون بإجاد إرادة سياسية وطنية ـ سلطة ومعارضة ـ لجعل حد للفساد ولنزيف المقدرات الوطنية، ومن اجل إحداث التحول السياسي الحقيقي المفضي الى تغيير النظام السياسي وطريقة صنع القرار فيه.

استحالت الخروج من التخلف وإحداث الترقّي المنشود في غياب مصالحة وطنية حقيقية 

لكن لا يمكن الحديث عن تحول اقتصادي مع استمرار من جهة التخندق الأيديولوجي، ومن جهة أخرى ثقافة الاقصاء والاستئصال والتعدي على القوانين وانتهاك حرمات المواطنين وحقوقهم التي كفلتها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ونهب خيراتهم، وتعطيل مصالحهم وإفسادها. الثقافة التي افضت الى مأساة وطنية لم نتمكن من ضمد جراحها الى اليوم. فلا يمكن احداث الترقّي المنشود في غياب مصالحة وطنية حقيقية.

والمصالحة الوطنية التي ننشدها تتأسس على قيم إسلامية وإنسانية خالدة تمكننا من تضميد جراح السنوات المأسوية التي مرت بها الجزائر ودفن الأحقاد وطي صفحة العنف ولغة الغاب والفساد، وفتح صفحة السلام والعمل السياسي الحضاري والتنمية.

ومن الواضح أنه، وبعد عشر سنوات من صدور النصوص القانونية المطبقة لها، لم نتمكن من تأسيس هكذا مصالحة وطنية ونحن نفتقر الى الايمان بالمؤسسات النظرية والمنهجية التي تقوم عليها المصالحة والتي تشكل المدخل الأساس للرؤية الحضارية في العمل السياسي وخدمة الصالح العام. فلا يمكن أن تكون هناك مصالحة حقيقية غير شكلية باستحضار ثقافة الانقسام وفقدان الإيمان باحترام الحريات العامة، وحق التعدد الفكري والعملي في الميدان الثقافي والسياسي والاقتصادي. ولا يمكن أن نتحدث عن المصالحة مع غياب كلي للقناعة التي تؤمن بخطورة مؤسسة الظلم السياسي والاجتماعي وتقنينه بأشكال متعددة ولمبررات مختلفة بل تتوسل بطرق التشريع للدكتاتورية كافةً بدعوى أن المجتمع وقواه الحية النابضة لم يبلغا مراحل النضج. وهكذا أضحت الوصاية على إرادة الشعب هي الشريعة التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الجزائر.

لا شك أن العديد من ضحايا جريمة انقلاب يناير 1992 النكراء على خيار الشعب استفادوا من بعض إجراءات المصالحة الوطنية، إلا انه وكما أشرنا إليه سابقا[10] ، وفي غياب مشروع سياسي يجسد قناعات سياسية مؤسسة وفي غياب رؤية شاملة تشمل الأهداف والغايات كما تشمل الوسائل والطرق التنفيذية، في غياب ذلك كله بقيت المصالحة الوطنية بعيدة عن المعنى الحقيقي للمصالحة. حيث كادت تنحصر في استعراضات فلكلورية وخطابات حماسية بعيدة عن القدرة للنفاذ إلى عمق الظواهر السياسية والارتدادات الممكنة على الواقع السياسي والاقتصادي للبلاد. فالمصالحة الوطنية لم تضمد جراح المأساة الوطنية ولم تعالج أسبابها ومخلفاتها، بل أُريدَ من خلالها تقنين اللا عقاب.

الجزائر في حاجة الى إصلاحات تؤسس لثقافة المواطنة والديمقراطية واحترام التنوع داخل المجتمع والتعددية السياسية

هكذا، وفي الختام، الجزائر في حاجة الى إصلاحات تؤسس لثقافة المواطنة والديمقراطية واحترام التنوع داخل المجتمع والتعددية السياسية، تحدث من جديد الانسجام بين الدولة و المواطن وتعيد للسياسة مكانتها ودورها المحوري، اذا ما اردنا الخروج من التخلف واحداث الترقّي المنشود وترجمة على ارض الواقع زخم الأفكار والمشاريع الى زخم البرامج بشقها السياسي والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، ووضع السياسات القابلة للتنفيذ على ارض الواقع تحدث نقلة حضارية و ترقية شاملة حقيقية لبلدنا ـ شعبا وحكومة ودولة ـ لما يخدم شعبنا وباقي شعوب منطقتنا المغاربية و العالم الاسلامي.

وهذا موضوع مقالنا الثاني بحول الله من  هذه السلسلة من المقالات المعنونة ب “إصلاحات من أجل الترقي”، ضمن  الإصلاحات السياسية لوحدة الدراسات الجزائرية لمركز الترقي للدراسات الاستراتيجية.

[1] أي الدول التي تنتمي الى العالم الثالث

[2]  ظهرت عبارة “الوحدة في العمل” لأول مرة، فيما يخص النصوص المؤسسة للدولة الجزائرية لما بعد الاحتلال، في بيان أول نوفمبر. حيث دعا مفجري الثورة التحريرية من خلال البيان التاريخي إلى تنسيق مغاربي وبالتحديد مع تونس والمغرب للتحرر من الاحتلال الصليبي الفرنسي. وقد تم تطبيق المبدأ بنجاح كبير داخل الجزائر لتحريرها من الاحتلال.

[3] مالك بن نبي، “بين الرشاد والتيه”، الفصل الثالث: في السياسة، “السياسة والبولتيك”، ص 85، الطبعة الأولى، دار الفكر-دمشق سورية، 1978، الكتاب عبارة عن مقالات للأستاذ نشرت في مجلة “الثورة الافريقية” الصادرة بالفرنسية، جمعها في صيف 1972 وترجمها للعربية.

[4] أنظر كتاب: Fawzi Rouzeik: Le Groupe d’ Oujda revisité par Chérif Belkacem,  Ed. L’Harmattan, Paris, 2015

[5] الفقرة مقتبسة بتصرف من مقدمة كتاب “المصالحة الوطنية في الجزائر، خطوة حضارية نحو حل ازمة اختيار السلطة السياسية، أنور نصر الدين هدام، www.hoggar.org  جنيف، ماي 2007.

[6] هناك تسميات أخرى مثل: الحداثة، والأصالة، ومثل القوى التقدمية، والقوى الرجعية، الخ.

[7] إن التطاول هذا على علماء الأمة عبر التاريخ ولو خارج إرادة علماء اللامذهبية هو الذي ولّد هذه الفئة الباغية التي ذهب بها الأمر إلى استباحة دماء من يخالفهم. ومنه فإن على عاتق علماء ودعاة اللامذهبية مسؤولية كبرى تجاه هذا الشباب وتوجيهه وإنقاذهم من الغلاة المبتدعين.

[8] نشير هنا الى ضرورة التوقف على تاريخ الجزائر الحديث واستخلاص العبر. هناك صراعات عديدة عانت منها الحركة الوطنية بمختلف تياراتها قبل الثورة التحريرية، وحتى واثناءها وبعد الاستقلال، مثل:  ـ الصراع بين جبهة التحرير الفتية والحركة الوطنية بقيادة مصالي الحاج والذي تحول الى اقتتال سماه محمد حربي ”حرب داخل حرب” في كتابه:

Le FLN, Mirage et Réalité. Des Origines à La Prise du Pouvoir, (1945-1962), Edition NAQD/ENAL, Alger, 1993, p143

ـ والصراع بين السياسي والعسكري، وبين الداخل والخارج، والصراعات بين الولايات، وحتى داخلها أيام الثورة.

ورغم أن الصراعات أمر طبيعي خاصة في الحياة السياسية، إلا أن الحظر التام الذي لمسته هذه الأحداث من تاريخنا تسبب في عدم معالجتها، بل وفي الوقوع في نفس الأخطاء. يعكس هذا الحظر الذهنية السياسية والفكرية للنخبة الثورية التي هيمنت على مفاصل الحكم فيما ما بعد الاستقلال، والذي فضلت الاستثمار في الماضي: ”قداسة الثورة و المجاهدين”، على حساب الحاضر و مستقبل الأجيال المقبلة.

[9] “المسلم في عالم الاقتصاد”، مالك بن نبي، 1972م.

[10]  أنور نصر الدين هدام” “المصالحة الوطنية في الجزائر، خطوة حضارية نحو حل ازمة اختيار السلطة السياسية”، www.hoggar.org  جنيف، ماي 2007.